Uncategorized

زيارة تاريخية لمفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى سوريا: دعوات للمساءلة والعدالة وإعادة بناء الوطن

نحن اليوم أمام سابقة تاريخية. إذ لم يسبق أن قام أيٌّ مفوض سامٍ لحقوق الإنسان بزيارة سوريا. لقد أذهلتني شجاعة السوريين الذين التقيتهم، وثباتُهم وصمودُهم، على الرغم من الجرائم الوحشية والصدمات التي تعرضوا لها على مر السنين. لقد تأثّرتُ كثيراً عندما أصغيتُ إلى محنتهم.

 

لقد عملت مفوضيّتنا – أي مفوضية الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان – على مدى السنوات الـــ14 الماضية، من دون كلل أو ملل، فقامت برصد حالة حقوق الإنسان الخطيرة للغاية في سوريا، وتوثيقها ونشر العديد من التقارير بشأنها، بغية لفت انتباه العالم لها، والدعوة إلى تحقيق المساءلة، على الرغم من منعنا من دخول البلاد.

 

خلال زيارتي هذه، استمعتُ إلى عدد من الضحايا. أحدهم جندي سابق اشتُبِه في أنه منشق، فاحتُجِز في سجن صيدنايا المشؤوم، حيث كنا نوثّق الانتهاكات منذ سنوات. وأخبرني عن المعاملة القاسية التي تعرض لها. لا يسعني حتى أن أشارك قصصه عن الضرب والتعذيب. كان محشوراً في زنزانة شديدة البرودة برفقة عشرات آخرين، ولا يتشاركون سوى بعض البطانيات، شأنهم شأن آلاف المعتقلين والمختفين في سجن صيدنايا نفسه، وفي العديد من المرافق الأخرى على مدى عقود مضت. كانوا في الصباح الباكر، عندما يسمعون صوت الحرّاس على باب الزنزانة، يرتجفون رعباً، ويرجعون إلى الجزء الخلفي من الزنزانة، خوفاً من اقتيادهم من جديد للتعذيب أو حتى الإعدام. لقد لقي الآلاف حتفهم في السجون في جميع أنحاء البلاد.

 

قمتُ أيضاً بزيارة حي جوبر السكني في دمشق، الذي أمسى يشبه اليوم ما لا يمكن وصفه سوى بأنّه أرض خراب تبدو كما لو أنها تبشّر بنهاية العالم. لم ينجُ أي مبنى في المنطقة من القصف، نتيجة الاعتداءات والهجمات المتتالية. من غير المقبول إطلاقاً أن يحدث هذا الكمّ الهائل من عمليات القتل الجماعي والدمار. وكذلك فإن استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة ضد المدنيين في مناطق أخرى من البلاد، ولأكثر من مرّة، يعبّر بوضوح عن الوحشية المروّعة للتكتيكات التي اعتمدها النظام السابق. وليست هذه الأفعال سوى بعض من أخطر الجرائم بموجب القانون الإنساني الدولي.

 

لقد أصغيتُ إلى الضحايا، وإلى منظمات المجتمع المدني التي تمثلهم، فأخبروني عن احتياجاتهم الفورية وتطلعاتهم على المدى الطويل. وعلى الرغم من البؤس الذي لحق بهم، إلا أنهم يتحدثون عن ارتياحهم وآمالهم في المستقبل. وفي دمشق، شاهدتُ الناس منشغلين، يعيشون حياتهم اليومية، يتسوّقون، ويشربون القهوة، ويزورون أماكن العبادة. أمّا الأطفال فيلعبون في الشوارع.

 

لكن ما زال هناك الكثير مما يجب القيام به. وهذه اللحظة حاسمة، نظراً للتحديات والمخاطر الهائلة التي تلوح في الأفق. فالشعب السوري بحاجة إلى كل مساعدة ممكنة، من أجل إعادة بناء بلده بطريقة تخدم صالح جميع السوريين. لقد جئتُ إلى هنا كي أطمئنكم بأنّ مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ستواصل دعم العمليات الشاملة التي تملكها وتديرها الجهات الوطنية.

 

لا تزال مخاطر حقيقية تهدّد سوريا وأراضيها واستقلالها وسيادتها، التي يجب احترامها والتمسك بها بشكل كامل. ويجب وضع حدّ نهائي للنزاعات والأعمال القتالية المستمرة.

 

خلال الزيارة، التقيت رئيسَ سلطات تصريف الأعمال، أحمد الشرع. وقد أقرّ لي وأكد أمامي أهمية احترام حقوق الإنسان لجميع السوريين، وجميع مكونات المجتمع السوري على اختلافها، فضلاً عن السعي إلى تضميد الجراح وبناء الثقة والتماسك الاجتماعي وإصلاح المؤسسات.

 

كما ناقشنا الفرص والتحديات التي تنتظر سوريا الجديدة. يجب ترسيخ حقوق الإنسان في العمليات كافة، كي يتمكّن الجميع من العيش أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق.

 

لكن التحدياتِ تظلُّ هائلة.

 

ويجب أن تتمثّل المهمة الأولى في إنقاذ الأرواح. لقد فُقدت مئات الآلاف من الأرواح، بينما تبقى مناطق شاسعة من البلاد في حالة دمار وخراب. إنّ تسعين في المئة من السكان غارقون في الفقر، والنظام الصحي في حالة يرثى لها والعديد من المدارس مغلقة. ولا يزال الملايين مشردين، داخل وخارج البلاد. إن الحق في الغذاء والصحة والتعليم والسكن هي من حقوق الإنسان الأساسية، ويجب بذل جهود فورية وجماعية ومتضافرة لضمانها. وفيما يبحث المجتمع الدولي في مسألة العقوبات، من الضروري للغاية أن يضع في اعتباره أثر العقوبات على حياة الشعب السوري. لذلك أدعو إلى إعادة النظر بشكل عاجل في العقوبات القطاعية بهدف رفعها.

 

من أجل المضي قدماً، من الضروري للغاية معالجة أخطاء الماضي التي ارتكبتها جميع الأطراف الفاعلة في سوريا على مدى العقود الخمسة الماضية. ويجب محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد تم توثيق مخاوف من وقوع أخطر جرائم الحرب وحتى جرائم ضد الإنسانية على مدار سنوات النزاع. ويجب التحقيق بشكل كامل في حالات الاختفاء القسري والتعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية وغيرها من الجرائم الوحشية الأخرى. ومن ثم، يجب تحقيق العدالة بشكل عادل ونزيه. لقد سمعت مراراً وتكراراً من السوريين أنفسهم أن هذا هو ما يريدونه بالضبط.

 

إن هول الجرائم الوحشية يصعب تصديقه. وسنعمل بطريقة تكميلية لمعالجة هذه الانتهاكات وغيرها من الانتهاكات الأخرى، بالتعاون مع آليات حقوق الإنسان الأخرى، ومنها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة، والمؤسسة المستقلة المعنية بالأشخاص المفقودين في الجمهورية العربية السورية التي أنشئت حديثاً. هذه المؤسسة، التي انطلقت للتو، ستعمل مع العائلات ومجموعات الضحايا والسلطات، لتوضيح مصير ومكان وجود العدد الهائل من المفقودين في جميع أنحاء سوريا وتقديم الدعم لأقاربهم.

 

العدالة الانتقالية أمر بالغ الأهمية فيما تمضي سوريا قدماً. فهي تهدف إلى توفير الاعتراف للضحايا، وتعزيز ثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتعزيز احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. فالانتقام والثأر لا يشكّلان الحل أبداً. بل يجب تنفيذ عملية مملوكة بالكامل على المستوى الوطني لتضميد الجراح وكشف الحقيقة وتحقيق المصالحة.

 

إن مفوضيّتنا على أهبّ استعداد لدعم مبادرات العدالة الانتقالية وجميع الإصلاحات الأخرى في مجال سيادة القانون، فيما تمضي سوريا قدماً. ونحن نعرف أن هذه العمليات، أثبتت المرّة تلو الأخرى، أنها تساهم في معالجة المظالم والانقسامات مع التركيز على محنة الضحايا.

 

النساء والفتيات يواجهن تفاوتات بالغة في البلاد. فخين ننظر إلى الأرقام، من الواضح أن أوجه عدم المساواة بين الجنسين تحدّ من إمكانية حصولهنّ على الرعاية الصحية والتعليم والسكن الآمن. إن إعادة بناء سوريا، التي تعمل من أجل جميع أبنائها على قدم المساواة في الكرامة ومن دون أيّ تمييز، يشكّل مفتاح النجاح والاستقرار.

 

تتوخى مفوضيتنا مواصلة العمل على الأنماط التي تؤثّر على الحقوق في السكن والأراضي والملكية، لا سيما ممارسات الهندسة الديموغرافية التي تنتهك حقّ السوريين، لا سيما العائدين والنازحين داخلياً، في التمتّع بهذه الحقوق الأساسية.

 

لقد أنشأنا فريقاً متخصصاً معنياً بسوريا، وهو يعمل منذ العام 2013، من خارج البلاد بسبب رفض النظام السابق السماح لنا بالعمل في سوريا. وقبل ثلاثة أسابيع فقط، تمكن زملاؤنا من دخول البلاد للمرة الأولى، ونحن نتطلع اليوم إلى دعم حقوق الإنسان من داخل سوريا.

 

هذه اللحظة حاسمة حقاً بالنسبة إلى سوريا بعد عقود من القمع. أملي كبير في أن يتمكن جميع السوريين من الازدهار معاً، بغض النظر عن الجنس أو الدين أو العرق، وبناء مستقبل مشترك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *