العلامة الشيخ علي الخطيب حكومة تصريف الاعمال بالقيام بواجباتها في لجم الاحتكار والفلتان الأمني والاجتماعي، فاستقالة الحكومة لا تعني ابداً التخلي عن مسؤوليتها الوطنية ولاسيما ان الأوضاع الخطيرة التي يشهدها لبنان
وجه نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب رسالة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على أشرف النبيين سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
تختلف نظرة الناس الى الحياة ويختلف سلوكها وتختلف اهدافها تبعاً لذلك فمنهم من يعتبرها معبراً وطريقاً لحياة خالدة اخرى يصنعها المرء بيده فهي نتاج وحاصل ما عمله في هذه الحياة ( فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره ) ومنهم من لا يرى خلفها شيئاً فهي اقصى ما يصل اليه نظره والسبب في هذا الاختلاف في الرؤية هو نقطة الانطلاق فيها فالذين سُخِّرَت
عقولهم للشيطان وفي خدمته ليست حرة (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ( توحي اليهم شياطينهم زخرف القول ) فهؤلاء ينطلق تفكيرهم اساساً من ايحاءات الغرائز لديهم فتسخرها لتحقيق ما يشبعها وهذا هو العقل الشيطاني.
اما اصحاب العقول الحرة فهم الذين تتحرك عقولهم في البحث عن الحقائق في هذا الكون وعن الاهداف التي تقف خلفها وما يترتب على ذلك من نتائج – متحرراً من ذاته وغرائزه ومترفعاً عن مصالحه -على المرء ان يلتزم تحقيقها وينسجم في سلوكه معها، ولا شك في ان الموضوعية تقضي باتباع النهج الثاني للوصول الى نتائج سليمة.
ولأن منطق هؤلاء هو المصالح الذاتية والأنانية والغرائزية فلا يمكن ان نأمل منها فعلاً وسلوكاً يحقق الخير للآخرين فضلاً عن ان يفكر في خدمتهم او يتخلى عن مصالحه من اجلهم، بل العكس هو الصحيح فليس هناك احد سواه والآخرون هم مجرد وسائل لخدمته .وهذا هو المبدأ الذي دعا اليهود للاعتقاد بأن سائر الناس مجرد مخلوقات وجدت لخدمتهم، وللاسف فإن هذه المدرسة في التفكير هي السائدة، ولقد طغت على سلوك حتى المخالفين لها نظريا ومنهم اتباع المدرسة الاخرى الموضوعية، ولقد عالجت هذه المدرسة هذا الخلل على المستوى النظري وعلى مستوى وضع البرامج العملية والسلوكية التي من شأنها إن طبقت ان تؤدي الى تحويل الايمان من الحالة النظرية الى ملكه على مستوى السلوك لا تتخلف حاثةً اتباعها بأشكالٍ متعددة على القيام بها وهو ما يعبّر عنه الكتاب العزيز بتزكية النفس والذي كان احد وظائف الانبياء والرسل (ليزكيهم ويعلمهم ) وبيان اهمية هذه التزكية ( المهمة التربوية ) اضف الى ذلك المحفزات التي اوجدتها هذه الثقافة لحث اتباعها على الالتزام بهذه البرامج التربوية والسلوكية من الثواب الكبير والاجر الجزيل. وقد اسهب القرآن الكريم والاحاديث الشريفة للنبي واهل بيته (ع) في ذكرها ووصف عظمتها ما يعجز الخيال عن تصوره ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) في وصفٍ للجنة التي وعِدَ المتقون، وحيث انَّ الايمان لا بد ان ينعكس على الواقع وان يتمثله المؤمن في ممارساته وسلوكه واخلاقه ، فليس يكفي الايمان النظري وحده لتحقيق ذلك بل لا بد من القيام بعملية تربوية وتدريبية ليتحول هذا الايمان كما اسلفنا الى ملكه نفسانية وعادة سلوكية، وحيث ان الله تعالى جعل للإنسان حرية الاختيار بقي عليه ان يقوم بعملية الاعتقاد والاختيار والاستجابة لمتطلباته وللمحفزات التي يثيرها ايمانه للانطلاق في رحلة الحياة وقد أمَّن لها كل متطلبات السلامة والنجاح متسلحاً بكل عوامل المناعة التي تعصمه من السقوط والخسران. من هذا المنطلق نفهم الاهتمام من جانب السنة النبوية والاحاديث الواردة والمنسوبة للائمة اهل البيت (ع) بالمناسبات والحث فيها على القيام ببعض العبادات من الصيام والصلوات والادعية الخاصة والعامة والتي بني فيها على التسامح في ادلة السنن انطلاقاً من هذا المبدأ التربوي والعناية بتهذيب النفس وتعميق ارتباطها بالله تعالى وتخليصها من التعلق بالزائل والتافه من الامور والترقي في سلم المعاني والقيم من حب البذل والعطاء تخلصاً من الحرص والبخل ومذموم الصفات والتحرر من قيود الغرائز والشهوات ومن غلبتها وشرورها فإن النفس امارة بالسوء الا ما رحم ربي وتهذيباً لها من الجموح فتهوي بنا في الجحيم اعاذنا الله.
ولذلك فإن ما ورد من الروايات التي يذكر فيها من الثواب الجزيل والاجر العظيم من القصور والحور وما اشبه مما لا ينبغي فهمه بالقياس على محدوديتنا لأن الله تعالى يعطي بلا حدود وما ذكر من ذلك كقوله (مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل حبة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء ) ليس الا مثالاً على سعة عطاء الله وكرمه، ثانياً انه من باب بيان عظمة واهمية هذا الفعل واثاره على نفس الواهب والمنفق من التخلي والتحرر من ان يكون سجين المال، ثالثاً لما له من اثار اجتماعية سواء على مستوى تمتين الوحدة الاجتماعية او الامان الاجتماعي ولكن المردود المباشر على القائم بهذا الفعل هو الاثر التربوي والنفسي وتزكية النفس وتخليصها من حب الذات والانا التي قال فيها رسول الله ص (حب الدنيا رأس كل خطيئة ) .
فالعبادة بكل مظاهرها من الصلاة والصيام والانفاق في سبيل الله تعالى يؤدي هذه الوظيفة التربوية والتي تجعل الايمان عاملاً ايجابياً على مستوى السلوك وعلى هذا الاساس نفهم الروايات الواردة في فضل شهر رجب وغيره من الاشهر واهمية الاعمال التي ورد الحث عليها وما أُعدَّ للقائم بها من ثواب قصد به التعبير عن الكثرة من الخيرات والبركات.
ووجه سماحته تحية الاكبار والتقدير الى القادة الشهداء في ذكراهم المجيدة التي تعمدت بالدم لتصنع مجدا وعزا ليس الى اللبنانيين فحسب انما لكل العرب والمسلمين ، فهؤلاء الشهداء الابرار قدموا التضحيات الكبيرة التي جعلتهم قدوة و انموذجا يستدعي اقتداء المسؤولين بهم، وحبذا لو يرتقوا الى الحد الأدنى من البذل والتحلي بالمسؤولية الاخلاقية والوطنية لما وصل حال بلادنا الى الدرك الأسفل من الخزي والعار.
ان التدهور المعيشي والانهيار الاقتصادي نتيجة طبيعية لتداعيات الفساد الذي انتهجته الطبقة السياسية في سياستها الاقتصادية وخيانتها لأمانة المسؤولية الوطنية فحولت الدولة الى مزرعة تتقاسم ثرواتها بالمحاصصة السياسية تارة واخرى بتقاسم المشاريع والتلزيمات وتشجيع الرشى والهدر ونهب المال العام حتى بتنا اليوم نستجدي المساعدات والهبات من صندوق النقد الدولي لإنقاذ غالبية الشعب اللبناني الذي يئن من الفقر والحاجة فيما تكدس طبقة الفاسدين الثروات الطائلة من المال العام المنهوب.
ان الإصلاحات اكثر من حاجة وضرورة لاستعادة ثقة اللبنانيين والعالم بالدولة التي اوصلها الفساد الى مصافي الدول الفاشلة والمنهوبة، والخطوة الأولى لإنجاز الإصلاحات تتحقق بتشكيل حكومة انقاذية من اصحاب الكفاءة والنزاهة الذين يكتسبون سيرة حميدة وتجربة موثوقة في العمل الوطني ، وليعلم الجميع ان التأخير في تشكيل الحكومة يفاقم الازمات ويسبب ازمات جديدة، ولا مناص من انجاز تفاهم وطني داخلي يفضي الى تشكيل حكومة مهمة انقاذية لا مكان فيها للتجاذبات السياسية وللمناكفات والمحاصصات الطائفية و الحزبية حتى لا نعيد التجارب الفاشلة ونكرر المأساة من جديد.. لقد حان الوقت لتشكيل حكومة من إنتاج وطني تعبّر عن حس وطني مسؤول، وعلى الجميع العمل في هذا الاتجاه بدل الركون الى الخارج من خلال تدويل الازمة اللبنانية بزيادة تعقيدات جديدة تربك التوافق الوطني وتخلط المصلحة الوطنية العليا بمصالح الدول وتناقضاتها.
ودعا سماحته اللبنانيين الى حل مشاكلهم عبر الحوار ولاسيما انهم قادرون على الخروج من المأزق واجتراح الحلول بالعودة الى الحوار واطلاق إصلاحات تنقذ الاقتصاد الوطني وتصوب المسار الحكومي وتفعّل أجهزة الدولة ومؤسساتها ليكون لنا دولة عدالة اجتماعية يحكمها القانون والمؤسسات دون تمييز بين مواطن واخر، ونحن اذ نرحب بكل دعم ومسعى من جهات شقيقة او صديقة، فإننا نشكر كل مساعدة تقدم الى وطننا وندعو اللبنانيين الى الاتكال على انفسهم في مواجهة الازمة المعيشية فيكونوا عوناً لبعضهم .
وطالب سماحته حكومة تصريف الاعمال بالقيام بواجباتها في لجم الاحتكار والفلتان الأمني والاجتماعي، فاستقالة الحكومة لا تعني ابداً التخلي عن مسؤوليتها الوطنية ولاسيما ان الأوضاع الخطيرة التي يشهدها لبنان توجب تعاطياً استثنائيا من السلطة بما يحفظ الانتظام العام للمجتمع وسير عمل المؤسسات الرسمية، حتى لا يستغل أعداء لبنان هذه الثغرات الخطيرة لبث الفتن واغراق لبنان في الفوضى .