هل سقطت المبادرة الفرنسية بشقّيها السياسي والإصلاحي المالي وكيف السبيل لدعمها من اجل الإنقاذ في لبنان؟
هذه المقالة ستتناول المبادرة الفرنسية في قسميها السياسي والإصلاحي- الإنقاذي بالإستناد إلى ندوتين نظمهما ملتقى حوار وعطاء بلا حدود مؤخراً في معرض مُتابعته الدائمة للتطوّرات السياسية الخطيرة الجارية، خاصة على صعيد المساعي المُتعثّرة لتأليف الحكومة العتيدة، والمُحاولات الحثيثة لخرق جدار العقبات التي تواجه تشكيل الحكومة وتمسّك مُعظم القوى السياسية بمُكتسباتها السابقة وبأوراق قوّتها الأساسية وعدم قبولها بتقديم اية تنازلات لأنها تخوض منذ اليوم معركتي الإنتخابات النيابية ورئاسة الجمهورية القادمة، ناهيك عن رعبها من ان يتمّ فتح ملفّات فساد قياداتها والمتورطين فيها في هذا الموقع او ذاك .
وكان الملتقى قد نظّم منذ اسبوع ندوةً تفاعلية اولى عبر تطبيق Zoom بهدف التداول حول "آخر تعقيدات الأزمة السياسية في لبنان" وما يُحكى عن
"المبادرة الفرنسيّة المتجدّدة" بهدف الغوص اكثر في تفاصيلها،
وفُرص نجاحها وفشلها. هذه الندوة كانت تحت عنوان إستفزازيّ إلى حدٍّ ما، بهدف طرح السؤال المشروع الذي يحقّ ويُمكن لأي ّمواطن لبنانيّ مُتابع لمجريات الأمور أن يطرحه، وهو : هل المبادرة الفرنسية ّ في لبنان جاءت لتُنقذ لبنان أم الطّبقة السياسية فيه؟ وهل سقطت كل البنود الإصلاحية التي كانت واردة في النسخة الأولى من هذه المبادرة؟ وكيف يمُكن للنُخب اللبنانية ولكل شرائح المجتمع اللبناني بشكلٍ عام ان تدعم هذه المبادرة وتصنع منها "قضية رأي عام في سبيل الخروج من النفق المُظلم الذي نسير جميعنا فيه"، خاصة في شقّها الإصلاحي-الإنقاذي للوضع الإقتصادي والمالي الكارثي الذي اوصلتنا اليه الطبقة الحاكمة في لبنان دون ان تُتهم بإستدعاء او إستجلاب التدخّل الأجنبي وبالتالي خيانة الوطن ومفهوم السيادة وغيرها .
والملتقى لمن لا يعرفه هو "ملتقى وطني جامع" يضمّ حوالي الف "شخصية نخبوية" من مختلف الإختصاصات السياسية والإقتصادية والمالية والتربوية والحقوقية والإعلامية والفكرية والثقافية والإجتماعية والطبية والإنسانية والناشطين في المجتمع المدني، من كل الطوائف والمذاهب والمناطق اللبنانية. وكان الهدف منذ التأسيس تشكيل "لوبي وطني جامع،عابر للطوائف والمذاهب والمناطق" بهدف الوصول في النهاية الى الإصلاح والتغيير الحقيقي وإنقاذ ما افسدته ايادي السلطة الفاسدة ومَن تعاون معها في عملية إفقار وإذلال الشعب اللبناني.
الحلقة الأولى السياسية كانت مُخصّصة "للشق السياسي" من هذه المبادرة ، وشارك في الحوار فيها: الإعلاميّ فيصل جلول، والإعلاميّ جوني منيّر والإعلاميّ سامي كليب.
وفي مداخلتي التي كانت تحت عنوان: هل المبادرة الفرنسية في لبنان هي لإنقاذ لبنان ام الطبقة السياسية فيه، أشرت الى اننا في الملتقى كنّا قد نظّمنا ندوة مُماثلة في نهاية العام الماضي، عندما كانت المُبادرة الفرنسية في أوج اندفاعتها، وقد ساهم هذا اللقاء يومها كثيرًا في تحديد فُرص النجاح والفشل، وسلط الضوء على البنود الإصلاحية الكثيرة التي أدرجت في الورقة المعدة على أساس ان تكون تلك الورقة معبراً للإصلاح الحقيقيّ، خاصةً وأنّ تلك الورقة قد تضّمنت العديد من النقاط الإيجابية، التي تحدثت عن ملف إدارة أزمة جائحة كوفيد- 19، ملف انفجار مرفأ بيروت وإعادة إعمار المدينة. واشارت الى أن تعهّد الحكومة اللبنانية بمجموعة من الأمور، أهمّها تسهيل توزيع المساعدات الإنسانية الدّوليّة، إضافةً إلى تسهيل عملية وضع المساعدات المُقدّمة من الأسرة الدّولية موضع التنفيذ بطريقة عاجلة، وشفافة وفعّالة، وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة. أما أهمّ البنود الإصلاحية التي وردت فيها، فهي تَعهُّد الحكومة بأن تجري تبادلاً مُنتظماً لوجهات النظر مع المجتمع المدنيّ في ما يتعلّق ببرنامجها، الذي يقضي بتسريع التفاوض مع صندوق النقد الدّولي، والموافقة السريعة على التدابير الوقائية التي طلبها هذا الصندوق خاصة في ما يتعلّق بإقرار القانون المتعلّق بالكابيتال كونترول، والتدقيق في حسابات مصرف لبنان. وقد شملت المبادرة يومها ايضاً تفاصيل الوضع الداخلي ومنها إصلاح قطاع الكهرباء الذي يُعتبر اهمّ مزاريب الهدر في لبنان. كذلك تطرّقت تلك البنود إلى ضرورة إنجاز التعيينات القضائية والمالية والقطاعيّة. وذلك وفقاً لمعايير شفّافة تعتمد على الكفاءة. كذلك ورد فيها التركيز على الحاجة السريعة لموافقة البرلمان على اقتراح قانون حول استقلالية القضاء، وإطلاق دراسة حول الإدارة العامّة وبنود اخرى تتعلّق بمكافحة الفساد والتهرّب الضريبي وضرورة تعيين أعضاء الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد،
والإصلاحات الجمركيّة، وتعزيز الرّقابة في مرفأي بيروت وطرابلس وفي مطار بيروت وكذلك فقرة تتعلّق بإصلاح الشراء العامّ (المناقصات).
وكذلك ما له علاقة بالماليّة العامّة، وضرورة الإعداد والتصويت على مشروع قانون تصحيحيّ لها، وفقرة لها علاقة بالإنتخابات التشريعية.
لكنّ الأمور تعقّدت كثيرًا منذ ذلك التاريخ، وشهدنا انكفاءً فرنسياً كبيرًا في قوّة دفع هذه المبادرة التي واجهتها قوى السُلطة بشراسة، ووضعت الكثير من العصيّ في طريق تطبيقها كونها تتعارض مع مصالح جل هذه الطّبقة الحاكمة، خاصة وأنّها كانت يومها قد أدرجت كل تلك السلسلة المهمة من البنود الإصلاحيّة التي تتعارض بشكل قطعيّ وواضح مع مصالح مُعظم مُكوّنات هذه السلطة، خاصة لجهة إختيار الوزراء ذوي الإختصاص والكفاءة والحيادية أو والإستقلاليّة، والقادرين على إتّخاذ القرارات بعيدًا عن المحسوبيّات والتبعيّة الحزبيّة التي كانت وما زالت سائدة حتى اليوم والتي استمرّ اهل السلطة بتطبيقها ولو كان ذلك بأساليب مباشرة فجّة احياناً او عن طريق المُواربة والتلطّي واللجوء للإستعانة بالمُساعدين والمستشارين احياناً اخرى. ومع مرور الوقت سرعان ما تبيّن. أنّ تحقيق التفاهم السياسي لا إمكانية له رغم وصول الأوضاع الإقتصادية والمعيشية الى قعر القعر والى وضعٍ يُبشّر الكثير من الخبراء انه سوف يكون كارثياً اكثر مما هو عليه. وهذا ما ادّى الى ضياع هذه الفرصة الحقيقية التي كُنا جميعاً نأمل ان تكون بداية طريق الخلاص ولو انها لم تكن كاملة مُتكاملة وتشوبها الكثير من العيوب لأنها كانت اصلاً مجموعة من العناوين الكبيرة التي كان على المسؤولين اللبنانيين إستثمارها والبدء بوضع قطار الإصلاح الحقيقي على سِكّته الطبيعية والبدء بورشة عمل إدارية تشريعية كبيرة لتطبيق هذه العناوين والتوسّع في تفاصيلها. لكنّ مجريات الأمور وتعقيدات الوضع اللبناني وإرتباطاته في كل ملفات المنطقة والإقليم جعلت الفرنسي يعود هذه المرّة بدعم وتفويض اميركي اكثر وضوحاً مما كانت عليه الأمور في عهد ترامب، ولكنه لم ينجح حتى اليوم في إحداث اي خرق يُذكر رغم مرور حوالي ٦ اشهر على طرح هذه المبادرة. كل ذلك بسبب اعتياد مُكوّنات السلطة على المُناورة والهروب الى الأمام وسعيها دوماً للتمسّك بالمُحاصصة والمكاسب الطائفية والمذهبيّة التي حصّلتها وعدم قدرتها على تقديم ايّة تنازلات او إستنباط ايّة حلول لأنها اصلاً عاجزة مُفلسة مُترهّلة وتسعى دائماً لشدّ العصب الطائفي والمذهبي كلّما حُشرت في الزواية وطُلب منها تقديم اية تنازلات في سبيل إنقاذا الوطن. ولذلك فإنّ التشاؤم هو سيّد الموقف حالياً. وقد يكون كل هذا التعنّت والتقاذف الكلامي والتهرّب من تحمّل المسؤوليات الوطنية الكبرى في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان مدخلاً لدخول لبنان ابواباً عدّة مُحتملة كلها جهنّمية سوداوية وقد يكون من ضمنها الفوضى العارمة واعمال العنف والشغب والتدويل.
ولذلك فإن التأخير والمماطلة على مستوى الطبقة الحاكمة ًوشعورنا ايضاً ان الرئيس ماكرون في مأزقٍ ايضاً، نتيجة عدم تحقيقه لأي تقدّم يُذكر رغم زيارتين مُتتاليتين للبنان ووعده بالقيام بزيارة ثالثة قريبة لم يُعرف موعدها بعد حتى تاريخ اليوم، لأنها قد تكون بعد جولته في المنطقة التي ستشمل زيارة المملكة العربية السعودية في محاولة لتخفيف القيود التي فرضتها على الرئيس الحريري في تشكيل الحكومة العتيدة، يجعلنا نتخوّف كثيراً من ان يكون هناك تنازلات واخذ وردّ وتمييع للأمور. هذا التخوّف في موضعه الطبيعي خصوصاً اذا ما اضفنا ان الطبقة الحاكمة تلجأ دوماً الى عمليات المناورة والتحايل والإلتفاف لكي تتهرّب من إلتزاماتها وخاصة في ما يتعلّق بتطبيق الشقّ الإصلاحي-المالي-الإداري- القضائي الوارد في الورقة الفرنسية الأولى لأنها تخشى الإنكشاف والمحاسبة على ما فعلته بهذا الوطن وما تسبًبت به من أوضاع سيئة .وما زادنا خوفاً على مصير هذه المبادرة ودفعنا مباشرة لتنظيم ورشة عمل مُتخصّصة لمناقشة الشقّ الإصلاحي-المالي الوارد في هذه الورقة بمشاركة نُخبة مُميزة من القانونيين والحقوقيين وخبراء المال والإقتصاد والمحاسبة بهدف الإضاءة على النقاط الإيجابية الواردة في تلك الورقة وتصويب النقاط الأخرى نتمنى على الفرنسي ان لا يغفلها في الجولة القادمة، اذا ما تمّت، هو شعورنا ايضاً ان الجانب الفرنسي يُبدي حالياً بعض المرونة وقد قدّم بعض التنازلات ونرجو ان لا يُقدّم المزيد منها.
هذه المرونة الفرنسيّة ظهرت وتظهر يومياً بشكلٍ واضح وصريح في مُعظم التقارير والتسريبات التي تُنشر تباعاً، والتي بدأت تتكلّم عن ان الرئيس ماكرون ولكي لا يُعلن الفشل بعد ان اخذ هذه المرّة ضوءا اخضراً اميركياً مبدئياً من إدارة بايدن قد يتنازل كثيرا وقد يقب بتشكيل حكومة "امر واقع" و "كيفما كان"، أو بشروط أقلّ تشدّدًا مما كانت عليه الأمور في السابق، وذلك للإسراع ببدء عملية الإصلاح المطلوب الذي كان ورد في الورقة المذكورة وبالتالي التصدي للتفاوض مع صندوق النقد الدّوليّ والجهات الدّوليّة المانحة الأخرى والسعي لمعاودة تفعيل قروض مؤتمر سيدر. ومما يعزّز من مخاوفنا وقلقنا هو انّه اصبح هناك تراجعاً فرنسياً واضحاً عن مبدأ حكومة الإختصاصيّين، وانه صار من المقبول دخول سياسيّين في التشكيلة الوزارية العتيدة التي يسعى الفرنسي لتمريرها بأي ثمن لأنّ فشل ماكرون في هذا الصدد سيكون له تداعيات كبيرة وخطيرة جداً على مُستقبله السياسي خاصة وانه وضع كل ثقل فرنسا في الميزان حتى تاريخ اليوم ولم يحصل على أية نتائج إيجابية ملموسة وانه لديه معركة رئاسية في المستقبل القريب وان لديه في فرنسا الكثير من المشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي يجب وضع حلول لها في اسرع وقت ممكن، مما سيجعل معركته الإنتخابية القادمة محفوفة بالكثير من المخاطر. وبالرّغم من أنّ المصادر الفرنسية تجزم حتى الساعة بأنّ البنود الإصلاحية التي سبق ووردت في الورقة الأولى لا تزال واردة في المبادرة الفرنسية المُتجدّدة، وهي تُعدّ مقبولة نسبيّاً كما ذكرنا آنفاً. إلا انه وكقوى مُجتمع مدنيّ ونخب واعية وناشطة منذ اكثر من اربعة سنوات وفي كل الميادين تقريباً وخاصة بالنسبة لملفّات مُكافحة الفساد والإصلاح المالي والإقتصادي والقضائي في لبنان، وكذلك لملفّ إسترداد الأموال المنهوبة المُهرّبة والمُحوّلة ولحماية حقوق المودعين في المصارف اللبنانية، يحقّ لنا أن نتساءل عن إمكانيّة وتوقيت تحقيق ذلك في ظل ّكلّ التجاذبات السياسية الدّاخليّة الحاصلة، وفي ظل هذا الصراع المُحتدم على بعض الوزارات (خاصة وزارتي العدل والداخلية)، خوفاً من أن تفتح كلّ جهة ملفّات هذه الجهة او تلك الأخرى بشكلٍ استنسابيّ او إبتزازي، ولكل ما تقدّم فإنّ أكثر ما يخيفنا في الواقع الراهن هو التسليم الفرنسيّ الذي اصبح شبه محسوما بمبدأ "عفا الله عما مضى"، على ان تُطوى صفحة كل ملفّات النهب والهدر والفساد القديمة، وهكذا تكون مُعظم مكوّنات السلطة في لبنان وخاصة تلك التي اوغلت في ذلك، قد حصلت على شهادة ّ براءة مجّانيّة، وأُعفيت عن كلّ ما اقترفته ايادي رجالها وازلامها في السابق من عمليات نهب وهدر وسطو على المال العامّ. وهكذا تكون المبادرة الفرنسية المُتجدّدة اليوم، اذا ما صحّ الكلام قد تنازلت عن معظم شروطها الإصلاحية فرصة ذّهبية للطّبقة الحاكمة لإنقاذ نفسها، ولعودة الصعود من الهوّة السحيقة التي سقطت فيها جرّاء سياساتها وتعنّتها وحقدها على لبنان وشعبه. وبذلك تُصبح هذه المبادرة مبادرة إنقاذ للطبقة الحاكمة المتورّطة في لبنان، بدلاً من ان تكون محاولة إنقاذ حقيقيّ للبنان وشعبه.
د. طلال حمود- ناشط سياسي- مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود