منوعات

المسلمون رواد حرية لبنان وتقدمه بقلم الدكتور حسن صعب

المسلمون الواعون حقيقة الله على أنها حرية، وحقيقة الإنسان على أنها حرية، وحقيقة الإسلام على انه حرية، وحقيقة حكم الإسلام على أنه حكم الحرية، والملتزمون بهذه الحقيقة، هم رواد حرية لبنان وتقدمه، ورواد حرية العرب وتقدمهم، ورواد حرية الإنسان وتقدمه.
المسلمون كسائر المواطنين اللبنانيين معبئون لتصيير الحرية والتقدم حقيقة كينونة لبنان وصيرورته وحقيقة كينونة العرب وصيرورتهم وحقيقة كينونة الإنسان وصيرورته. وتواجه المسلمين في نضالهم هذا أزمات في الحكم وخارجه كتلك التي واجهوها عام 19713 متراوحة ما بين أزمتهم هم في الحكم وأزمة العمل الفدائي الفلسطيني مع الحكم.
وكادت التفسيرات السياسية وحدها تطغى على الأسباب الكامنة وراء الأزمة السياسية. وكاد الاعتقاد يسود بأن الصراع المحتدم بين المسلمين السنّة هو صراع سياسي شخصي صرف فيما بينهم على رئاسة الحكومة وعضويتها، وأنه صراع طائفي خالص فيما بينهم وبين مواطنيهم أبناء الطوائف الأخرى على المشاركة في الحكم. إن المسلمين السنة يتنافسون على كراسي الحكم كما يتنافس عليها مواطنوا سائر الطوائف من رئاسة الدولة إلى مختارية الضيعة. ولم ننس بعد ان التنافس في آخر معركة لرئاسة الجمهورية كاد يسفر عن مجزرة دموية داخل البرلمان. والمسلمون السنة يتطلعون لنظامهم السياسي اللبناني كنظام مشاركة لأنه نظام ديموقراطي طائفي. إن الديموقراطية الحديثة، بمختلف صورها الأيديولوجية، هي نظام المشاركة بين جميع المواطنين في المسؤوليات والحقوق والواجبات.
ولكن الديموقراطية اللبنانية هي نظام المشاركة المزدوجة، المشاركة المبدئية العامة في ظل الدستور بين جميع المواطنين في المسؤوليات والحقوق والواجبات، والمشاركة النسبية بين الطوائف في الوظائف العامة السياسية والإدارية. وما دامت الديموقراطية اللبنانية تعتمد “إزدواجية” المساواة المبدئية والنسبية، فهي “سكتوكراسية” أكثر مما هي ديموقراطية، أو هي ديموقراطية الطوائف أكثر مما هي ديموقراطية المواطنين أو ديموقراطية الشعب. وما دام هذا هو حالها، فلا بد أن ترتفع فيها دائماً أصوات من طائفة أخرى بالمطالبة بتصحيح المشاركة وجعلها أكثر عدلاً مما هي عليه، سواء أكانت هذه الأصوات سنية كما هي اليوم، أو شيعية كما كانت بالأمس، أو مارونية كما كانت لدى قيام الحلف، أو درزية وأرثوذكسية ولاتينية وبروتستنطية كما ستكون في الغد.
وإذا كان الصوت السني هو المرتفع الآن بالمطالبة بالمشاركة، فليس ذلك لأن السنة هم أقل تعصباً للبنانّ الوطن من سواهم، فالسنة هم أبطال وبناة لبنان الوطن من الأمير فخر الدين حتى رياض الصلح. والسنة هم المنادون اليوم بإلغاء النظام الطائفي إلغاءً كلياً. وليس ذلك لأن السنة هم أشد مغالاة في تعصبهم الطائفي من سواهم. فالسنّة هم فكراً وسلوكاً إنسانيون قبل أن يكونوا طائفيين، وهم عروبيون قبل ان يكونوا فئويين، وهم إسلاميون تسامحيون قبل ان يكونوا إسلاميين تعصبيين من الإمام الاوزاعي الى رشيد رضا الى عبد الله العلايلي الى عمر الفاخوري. والسطحيون وحدهم والمغّرون وحدهم والمتعصبون وحدهم هم الذين لا يرون في الصخب السني الراهن إلا وجهه التنافسي الشخصي أو وجهه التعصبي الطائفي.
ان الحقيقة هي أعمق من المنافسات الشخصية والعصبيات الطائفية. ان الحقيقة لا يمكن أن يراها إلا الذين يستطيعون أن يروا مع هيجل الكينونة صيرورة، والذين يحاولون أن يسبروا معه وراء حوادث التاريخ الظاهرة حركياته الجوهرية الخفية. الحقيقة هي ان سنّة لبنان يتشاركون مع كل مواطني لبنان في كل ما هو لبناني وكل ما هو عربي وكل ما هو إنساني، إلا أنهم يعانون معاناة أشد أزمة الوجود العربي الذي يتراوح اليوم بين البقاء والزوال. وأزمة الوجود العربي هي أعمق وأخطر أزمة عرفها الوجود العربي منذ القرن السابع الميلادي أي منذ انبثقت رسالة محمد بن عبد الله (ص) حتى الآن. وإذا كان السنّة أشد معاناة من سواهم، فليس ذلك لأنهم أحسن إسلاماً من سائر إخوانهم المسلمين، ولا لأنهم أصفى عروبة من سائر جيرانهم العرب، ولا لأنهم أصدق لبنانية من سائر إخوانهم اللبنانيين، فالسنّة ينظرون الى المسلمين على أنهم إخوة، والى العرب على أنهم إخوة، وإلى اللبنانيين على أنهم إخوة في السراء والضراء.
إن لازمة الوجود العربي الراهنة بعديها الخارجي والداخلي : البعد الخارجي المتجلي في الخطر الإبادي الإسرائيلي والخطر الداخلي المتجلي في التحول الذاتي اللازم لمجابهم الخطر الخارجي. والخطران يواجهان السنّة بتحديات تفوق ما تواجهه سائر الطوائف اللبنانية وسائر الفئات العربية. فالسنّة هم حماة الثغور من فجر الإسلام في وجه التتر والصليبيين والمستعمرين الأوروبيين والأميركيين. والسنة هم أركان الشرع المنظم لجميع وجوه حياة الإنسان الدنيوية والأخروية. والسنّة هم أنفسهم اليوم شهود التحول العشوائي لهذا التنظيم من الشرع الإلهي إلى الشرع الإنساني. ويعني هذا ان الوجود العربي يعاني فراغين تنظيميين مرعبين : فراغ التنظيم الدفاعي في وجه الخطر الخارجي وفراغ التنظيم الذاتي اللازم للتحول الداخلي. وهذان الفراغان هما فراغان سنيّان. أنهم فراغان في الكيان الإسلامي من حيث هو، وفي الكيان العربي من حيث هو، وفي الكيان اللبناني من حيث هو، ولكنهما فراغان في الوجود السني أكثر من سواه، لأن سنّة لبنان هم أكثر تواصلاً وتفاعلاً مع العالمين الإسلامي والعربي من سائر مواطنيهم اللبنانيين.
ان السنّة اللبنانيين هم أكثر من سواهم “مصغر” الأزمة الوجودية العربية الراهنة بكل ما فيها من مخاطر وتحديات واستجابات. وإذا كان السنّة يتطلعون الآن لمزيد من الحضور والمشاركة في حكم لبنان، فما ذلك إلا تعبيراً عن تطلعهم لمزيد من الحضور والمشاركة في عملية حل الأزمة الوجودية العربية. وعملية الحل عملية حضارية شاملة. ولكن الحل الحضاري لا يصبح عملياً إلا بقدر ما تصبح الحضارة سياسية والسياسة حضارة. ولذلك لا بد أن يشارك السنّة مشاركة حقيقية في عملية صناعة القرارات السياسية اللبنانية العليا لتكون لهم مشاركتهم في صناعة السياسة الحضارية اللبنانية الجديدة وفي صناعة السياسة الحضارية العربية الجديدة. وإذا كان السنّة ينشدون لأنفسهم دوراً أفضل في تقرير سياسة لبنان، فليس ذلك لأنهم يريدون تحويل لبنان من وطن إسلامي – مسيحي إلى وطن إسلامي، ولا لأنهم يريدون تسليم لبنان للثورة الفلسطينية، ولا لأنهم يريدون التنازل عن سيادة لبنان للحكم للسوري، ولا لأنهم يريدون تعريض لبنان لخطر الاحتلال الاسرائيلي، ولا لأنهم يريدون وقف انفتاح لبنان الدولي، بل لأنهم يريدون للبنان حضوراً أفضل ودوراً أفضل في معالجة أزمة الوجود العربي. ولبنان المشاركة الديموقراطية الحقيقية بين الإسلام والمسيحية، ولبنان المتآخي مع الثرة الفلسطينية، ولبنان الرادع للغارات الإسرائيلية، ولبنان المتصافي مع جارته سوريا، هو لبنان الأقدر على الوجود الحقيقي، وهو لبنان الأقدر على أن يكون له دوره الخلاق في تطوير الوجود العربي والوجود الإنساني.
إن لبنان صغير برقعته كبير بعبقريته. ولا تكون العبقرية اللبنانية إلا حيث يكون لبنان كله متشاركاً تشاركاً حقيقياً في صناعة القرارات المصيرية وفي صناعة السياسة الحضارية اللبنانية والعربية والإنسانية. وأما الاعتقاد بأن المسيحية تحضرية وان الإسلامية بربرية او تخلفية، أو بأن الإسلام وحدانية وإن المسيحية إشراكية، فإنه عقدة العقد فيما نعاني في لبنان من أزمات. إن للإسلام والمسيحية حضاراتهما التليدة، ولهما مقارباتهما الذاتية التوحيدية والتثليثية للوحدانية، ولكن أعمق ما يتحدانا مسلمين ومسيحيين اليوم هو أن تكون لهما وحدانيتهما الإنسانية ، وأن تكون لهما حضارتهما الجديدة، أو أن يكون لهما مشاركتهما الإبداعية لا مشاركتهما الاجترارية في صناعة الحضارة الانسانية الجديدة.
وهذا التحدي يواجه لبنان “مُستّوحِد” الإسلام والمسيحية قبل أن يواجه أي مواطن عربي أو أي مواطن إنساني آخر. وإذا رأيناه بكل أبعاده التاريخية، وإذا أحطنا بالأزمة الوجودية العربية بكل وجوهها، نظرنا جميعاً إلى المشاركة في الحكم في الظرف الحاضر كحكمة لا كمناورة، وكتبعة لا كمتعة، وكعبء لا كنزهة، وكأمانة لا كدعابة، وكتضحيات لا كمواكب، وكتخطيطات مستقبلية لا كارتجالات عنترية. والمسلمون السنة المطالبون عن حق بدور أفضل في صناعة سياسة لبنان مطالبون هم أيضاً بسلوك سياسي أفضل فيما بينهم، وبعلاقات سياسية أفضل فيما بينهم وبين سائر طوائف لبنان. إن عليهم أن يبرهنوا على أن ما يعنيهم بالفعل ليس استبدال شخص بآخر في رئاسة الحكومة أو في الوزارة أو في الإدارة بل استبدال سياسة تقليدية وعقلية ماضوية أخنى عليها الدهر بسياسة حديثة وعقلية عصرية تشرق بتطلعات المستقبل الساطعة بدل أن تعكس ظلال الماضي الباهتة.
ها هم قد نجحوا في إقصاء حكومة الدكتور أمين الحافظ عن الحكم من قبل أن تظفر بثقة البرلمان. فانتصرت لديهم إرادة الرفض. وجاء هذا الانتصار دليلاً جديداً على أن القدرة السنية على الرفض قدرة خارقة. وبرزت هذه القدرة هذه المرة أول ما ظهرت في معارضة الزعماء التقليديين لحكومة أمين الحافظ . ثم شايعهم أكثر زعماء الصف الثاني، وتضامن معهم فيه أكثر نواب السنة. وحتى الوزيرين السنيين الشابين، اللذين كان اختيار أمين الحافظ لهما سبباً من أسباب رفضه، انضما في اليوم الحاسم إلى موكب الرافضين، وتواريا عن جلسة الثقة. وسرى تيار الرفض السني إلى التقدميين والوطنيين الأحرار، فالتقى الذين لم يلتقوا منذ عام 1958 مع الرفض السني التقليدي لأمين الحافظ، وتحول بذلك الرفض السني إلى رفض وطني، فانتصر الرفض وذهبت حكومة أمين الحافظ ضحية رياحه العاتية.
ان الرفض هو محرك قوي للتاريخ. بل ان هيجل يعتبره القوة الكبرى الدافعة لحركة الصيرورة. وزماننا الآن بضوء ثورة الطلاب في العالم هو زمان الرفض. ولكن قوة الرفض هي قوة التاريخ الهادمة، أو النافية، أو السلبية. وأما قوته الخالقة أو البانية أو الإيجابية فهي في القدرة على رفض الرفض أو نفي النفي. وهذه القدرة، قدرة التحول من الرفض إلى الخلق، هي التي تتحدى اللبنانيين السنة كما تتحدى سائر اللبنانيين، بل كما تتحدى سائر العرب وسائر البشر في الظرف التاريخي الراهن، وفي هذه اللحظة الحضارية التي يواجه فيها الإنسان معضلات جديدة تتطلب حلولاً جديدة، وتستدعي قيادات قادرة على إبداع الحلول الجديدة.
ولا تتحدانا نحن السنّة القدرة على الخلق في تفكيك الحكومات وإعادة تأليفها، ما دامت رئاسة الحكومة لنا، ولكنها تتحدانا فيما هو أبعد وأعمق من ذلك، أي في تحليل الحكم وإعادة تنظيمه. وستظهر الأيام القليلة المقبلة من الاستشارات الوزارية، أنه كان أيسر علينا أن نتفق على رفض الحافظ من أن نتفق على خليفة له. ولو أصر الحافظ على الاتفاق على خليفته قبل أن يذهب لما ذهب. ولو أننا أدخلنا مادة في دستورنا، كتلك التي اعتمدت في دستور ألمانيا الغربية، تقضي بأن لا يذهب المستشار أو رئيس الحكومة إلا بعد الاتفاق على خلف له، لما كان متوسط أجل الحكومات في لبنان ستة أشهر، كما كان عليه الحال منذ عام 1943 حتى الآن.
وليس من الانصاف أن نعتبر ظاهرة الرفض السني مسؤولة لوحدها عن اضطرابية الوضع الحكومي، وقصر أجل الحكومات. فبنيات نظامنا السياسي من البنية الأساسية الطائفية إلى التنفيذية والتشريعية والحزبية والإعلامية والتثقيفية تشارك كلها في المسؤولية عن هذه الاضطرابية. وأخطر ما في هذا التشارك القاسم المشترك النفسي الخلقي الأعظم، الذي يتجلى في إصرار كل منا على إلقاء المسؤولية على الآخر وعلى تجاهل مسؤوليته الذاتية. فالسنّة يحمّلون الموارنة مسؤولية اضطرابية النظام أو تمييزيته والموارنة يحملون السنّة مسؤولية اضطرابيته وتخلفيته، وسائر الطوائف تحملها بالضرورة للموارنة والسنّة، ما داموا المستأثرين برئاستي السلطة التنفيذية.
ولا بد لنا أن نعالج هذا القاسم المشترك النفسي، معالجة مسؤولة لنتمكن من معالجة الحكم ومقارية النظام مقاربة صحيحة. ولا بد لكل من أن يتحمل مسؤولية تكوينه الذاتي وتحركه الخاص قبل أن يحملها للآخرين. ولا بد لنا نحن السنة أن نواجه حقيقة ما نحن فيه لنواجه الآخرين بحقيقة ما هو عليه الحكم وحقيقة ما هو عليه النظام وحقيقة ما هو عليه لبنان. وليس معنى هذا تكريس الأوضاع السياسية الطائفية، لنستخلص منها ولها بالضرورة حلولاً طائفية. ولكن معناه المعرفة الحق للواقع الطائفية لنهتدي منها إلى الحل الحق، الحل الوطني الديموقراطي، الحل الوطني للمعضلات الطائفية والحل الديموقراطي للأزمات الوطنية.
وقد تفور هنا العصبية الجاهلية لدى أولئك الذين يعتقدون أن علينا أن ننصر أخانا ظالماً أو مظلوماً. ولكن الإسلام جاء ناسخاً لهذه العصبية العمياء بروح الحق التي فسر بموجبها الرسول محمد (ص) نصرة الأخ المظلوم بوجوب مساعدته ونصرة الأخ الظالم بوجوب ردعه عن ظلمه. واللبنانيون كلهم أخوة، والمسلمون كلهم أخوة، والسنّة كلهم أخوة، تنطبق عليهم هذه القاعدة العادلة، ولذلك فإن عليهم جميعاً أن لا ينصروا بعضهم البعض إلا بالحق وفي سبيل الحق. والحقوق التي تناصرنا فيها منذ قيام لبنان الكبير بعد الحرب العالمية الأولى حتى الآن هي :
أولاً : حقنا وحق لبنان كله في أن يتحرر من الحكم الأجنبي. ورفضنا فيما قبل الاستقلال للكيان كان وليد إيماننا بهذا الحق.
ثانياً : حقنا وحق لبنان كله بعد التحرر من الحكم الأجنبي في التحرر من التخلف.
ثالثاً : حقنا وحق لبنان كله في أن يتحرر في ظل السيادة والعروبة والاستقلال من كل العقد والضغوط التي تعوق تعاونه التكاملي الفعال مع سائر الشعوب العربية.
رابعاً : حقنا وحق كل لبنان في أن يتضامن مع الشعب الفلسطيني في نضاله لاستعادة حقه المشروع في وطنه.
خامساً : حقنا وحق لبنان كله في أن تكون له سياسة دولية حرة ومستقلة وغير منحازة.
سادساً : تناصرنا في كل هذا ومع كل هذا في حقنا جميعاً نحن اللبنانيين في أن نتعايش في وطننا لبنان وفي ظل جمهوريتنا اللبنانية كمواطنين متساوين في الالتزامات والحقوق والواجبات. وسواء اعتبرنا كل هذه الحقوق حقوقاً دستورية يزكيها دستورنا الديموقراطي، أو ميثاقية يؤكدها ميثاقنا الوطني، فهي في نظرنا حقوق طبيعية وحقوق إنسانية وحقوق وطنية وحقوق ديموقراطية وحقوق شعبية لا للسنّة لوحدهم ولا للمسلمين لوحدهم بل لجميع المواطنين اللبنانيين.
ولذلك رفضنا فترة نصف قرن كل سياسة تتنافى مع هذه الحقوق الأولية لجميع المواطنين اللبنانيين. فكان رفضنا على هذا الصعيد رفضاً خلاّقاً، لأنه أتاح للبناننا العزيز أن يصون في الوقت نفسه استقلاله وعروبته، وأتاح لنا نحن أهل التخلف من السنّة والمسلمين أن نكون الدافعين للبنان في طريق سياسة الإنماء والتقدم، وان كان المغفور له المخطط لهذه السياسة مارونياً كبيراً أخذ عليه من قبل بعض الموارنة الاسترسال مع الإسلامية ضد المسيحية والتجاوب مع السنية ضد المارونية.
نحن أهل السنة كرواد لسياسة لبنان الاستقلالية، ولسياسة لبنان العربية، ولسياسة لبنان التحررية، ولسياسة لبنان الإنمائية، ولسياسة لبنان الديموقراطية، رواد مبدعون، جلبت مواقفنا السياسية المبدئية الخير كل الخير للبنان. ولولاها لما كان لبنان حيث هو اليوم من القدرة الرائعة على معاناة أية أزمة والانتصار عليها. ولكننا بقدر ما أنصفنا لبنان وشعب لبنان ككل ظلمنا أنفسنا وظلمنا بعضنا بعضاً كجزء لا يتجزأ من هذا الكل الحي المتكامل.
ظلمنا أنفسنا باعتزالنا الكل عبر “فجوة فكرية” وخلال “هوة طبقية جيلية” وبسبب “ثغرة تنتظيمية” يفرض علينا التاريخ الآن أن نتخطاها. وهي التي تعيق تحول قدرتنا الخارقة على الرفض الى قدرة كاملة على الخلق. و “الفجوة الفكرية” هي فجوة الفراغ المرعب بين فكرنا السياسي وسلوكنا السياسي. ولئن كانت هذه الفجوة ظاهرة من ظواهر التخلف السياسي العربي والتخلف السياسي اللبناني بصورة عامة إلا أنها ظاهرة من ظواهر التخلف السياسي اللبناني السني بصورة خاصة. إن السياسة بمعناها الشامل هي فكر وعمل ونظرية وسلوك وثقافة وإبداع وتخطيط وبرمجة وتنفيذ. هذه هي حقيقة السياسة منذ عهد اليونان حتى يومنا هذا.
ولكنها ألزم في عهدنا، عهد الثورة العلمية التكنولوجية، لزوماً عملياً تطبيقياً أكثر منها في أي وقت مضى. إن السياسة هي اليوم علم له أصوله وفن له قواعده بل هي ثورة عقلانية تخطيطية دائمة محددة الوسائل والأهداف. ولذلك فإننا حين نتصور ان الفكر شيء والسياسة شيء آخر وان الثقافة شيء والسياسة شيء آخر، فإننا بمثل هذا الموقف الخاطىء لا نتناقض مع حقيقة ولا مع روح العصر فحسب، ولكننا نتناقض أيضاً مع سنتنا الإسلامية بأروع ما فيها، ومع تجاربنا الحضارية العربية بأجمل ما فيها، هذه السنة وهذه التجارب التي تبرز فيها قيادتنا السياسية مقترنة دائماً بالقيادة الروحية والفكرية، ويشرق فيها أعظم قادتنا من محمد بن عبد الله (ص) الى عمر بن الخطاب (ر) الى علي بن ابي طالب (ك) الى المأمون الى ابن سينا الى ابن خلدون الى جمال عبد الناصر، سياسيين مفكرين ومفكرين سياسيين. وهذه الفجوة بين الفكر والسياسة هي وجه من وجوه مأساة الرفض التي عاناها أمين حافظ.
ان على جيلنا القيادي الجديد أن يستدرك هذه الفجوة بين الفكر والسياسة، وان يستدرك بروح ديموقراطية جديدة وسلوك وطني جديد الهوة الطبقية والهوة التنظيمية. وانه قادر على أن يفعل ذلك بعد أن أصبح مجتمعا الوطني وأصبحت طائفتنا تعج بالمفكرين والمثقفين، وأن نتجاوز “هوتنا الطبقية” لأن طبقتنا الأشد فعالية الآن الطبقة الوسطى، وأن نعالج “ثغرتنا التنظيمية” بتطوير التنظيم اللبناني كله تطويراً ديموقراطياً وطنياً، وبمشاركتنا فيه مشاركة عصرية خلاّقة. ان بوسعنا أن نطور أنفسنا تطويراً ذاتياً ديموقراطياً في طريق المشاركة الحقة لنكون أقدر على تطوير لبنان كله في طريق المشاركة الوطنية الحقة. ولكن المشاركة لا تعني استبدال رئيس بآخر بل استبدال نمط عشوائي للمشاركة بنمط تنظيمي ديموقراطي عصري للمشاركة الوطنية. ان تطوير أنفسنا تطويرٌ للبنان وتطوير لبنان تطوير لأنفسنا. ولا نستطيع التطوير إلا بفكر وتخطيط، وإلا بالمشاركة فيما بيننا قبل المشاركة مع غيرنا، وإلا بتنظيم هذه المشاركة مع أنفسنا قبل تنظيمها مع غيرنا. ان الفكر الخلاق والمشاركة الذاتية الخلاقة والتنظيم الخلاق هي طرقنا السوية لتحويل قدرة السنة الخارقة على الرفض إلى قدرة رائعة على الخلق.
والزعماء السنّة الذين تولوا أمر الطائفة وتداولوا رئاسة حكوماتها سحابة ربع قرن هم المسؤولون الأُوَل عن توجيهها التوجيه الإبداعي الجديد، وهم المسؤولون عن تمكين القيادة الجديدة من القيام بدورها الفكري ودورها التنظيمي ودورها الديموقراطي الوطني الجديد. إن السياسة كما عرفها إبن خلدون هي تنافس في سبيل الخير العام لا في سبيل الخير الخاص. فلماذا لا يطلق الزعماء السنّة حرية هذا التنافس للجيل القيادي.الجديد في الربع الرابع من القرن العشرين بعد أن تعهدوها هم في الربع الثالث منه؟ ولماذا لا يعترفون لغيرهم كما اعترفوا لأنفسهم بأن مسؤولية الحكم الديموقراطي هي حرية الإبداع في ظل قانون التجربة والخطأ؟ وهل عرف حكم شخص أو جيل أو حزب إلا بعد أن أتيحت له التجربة؟ وإذا جاءت تجربة الجيل القيادي الجديد أفضل من تجربة الجيل الذي سبقه، ألا يكون الفضل في هذا للسابقين واللاحقين معاً؟ أولسنا مع كل هذا وبعد كل هذا مسؤولين جميعاً عن صناعة مستقبل أفضل لوطننا ولأمتنا ولطائفتنا لا عن محاولة إحياء ماض انقضى ولن يكون أبداً بكل ما فيه من خبرة بديلاً لما يقتضيه وما يحمله المستقبل من جدة. كانت الخبرة في الماضي رأسمال السياسي الأكبر. ولكنها أصبحت الآن عبئه الأكبر. إن الجدة لا الخبرة هي رأسمال السياسي الأكبر في الربع الأخير من القرن العشرين. إن سياسة اليوم هي السياسة المستقبلية أي سياسة الغد. والساسة المفضلون هم الساسة المبدعون الذين يعرفون كيف يخترعون الغد الأفضل. أوليس الأولى بنا أن نقبل هذا التطور وأن نتكيف معه بل أن نسبقه لا أن نرفضه ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• مقال للمفكر السياسي العربي الراحل الدكتور حسن صعب، من كتاب “اسلام الحرية لا إسلام العبودية” ، الطبعة الأولى 1974.

• حسن صعب : مفكر عربي راحل حائز ليسانس من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1942، ودكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورجتون بواشنطن عام 1956. قام بخدمات متتالية في الحقل الدبلوماسي، وفي حقل التدريس الجامعي وفي المؤتمرات الدولية. مؤسس، رئيس الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية، ومؤسسة وأمين عام ندوة الدراسات الإنمائية، وعميد كلية الاعلام والتوثيق، لديه العديد من المؤلفات ومنها : “الإسلام وتحديات العصر”،”المقاربة الإنمائية للإنماء العربي”، “تحديث العقل العربي”،”الإنسان العربي وتحدي الثورة العلمية التكنولوجية”،”علم السياسة” لبنان العقل لا لبنان العنف”، “العرب يبدعون مستقبلهم”.
* المصدر : مؤسسة حسن صعب للدراسات والابحاث .
* المنسق الاعلامي : محمد ع. درويش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *